مدخل إلى: مباحث وقواعد حديثية
تنقسم العـلوم الشرعية إلى: (عـلوم شرعـية أساسية): وهي التي جـاء بهـا الـوحي العـزيـز، و(علوم شرعية مُعينة) أو ما يسمى بـ"علوم الآلة": وهي وسيلة لتحصيل تلك العلوم الأساسية، ففهم القرآن وفهم السنة يحتاج إلى وسائل وعلوم مُعينة على فهم كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وعلوم الحديث علوم آلة تستعمل للكشف عن السُّنن الصَّحيحة المرويَّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين نقْل كثير اختلط فيه الغثُّ بالسَّمين، وقد بدأت هذه العلوم في أول أمرها علوماً تطبيقيّة غير مؤصّلة تأصيلاً نظرياً، ثم تكاملت وتبلورت وصارت "مجموع القـواعد والمباحث الحديثية المتعلقة بالإسناد والمتن أو بالراوي والمروي".
وهي تتصل بضبط الحديث سنداً ومتناً، وبيان حال الراوي والمروي ومعرفة المقبول والمردود، والصحيح والضعيف، والناسخ والمنسوخ، وما تفرع عن ذلك من الفنون الحديثية الكثيرة، وكان المراد منها والدافع لها: حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوضع والتزوير والخطأ والتغيير.
يقول الشيخ سليمان الندوي مبيّنا أهميتها: "الرواية أمر ضروري، لا مندوحة عنه لعلم من العلوم ولا لشأن من شؤون الدنيا عن النقل والرواية؛ لأنه لا يمكن لكل إنسان أن يكون حاضراً في كل الحوادث، فإذاً لا يُتصور علم الوقائع للغائبين عنها إلا بطريق الرواية شفاهاً أو تحريراً، وكذلك المولودون بعد تلك الحوادث لا يمكنهم العلم بها إلا بالرواية عمن قبلهم.. هذه تواريخ الأمم الغابرة والحاضرة، والمذاهب والأديان، ونظريات الحكماء والفلاسفة، وتجارب العلماء واختراعاتهم: هل وصلت إلينا إلا بطريق النقل والرواية؟
ولما كانت الأحاديث أخباراً وجب أن نستعمل ـ في نقدها وتمييز الصحيح من غيره ـ أصول النقد التي نستعملها في سائر الروايات والأخبار التي تبلغنا؛ فهذه القواعد وأشباهها استعملها المحدثون في نقد الأحاديث، وسـموها: (أصول الحديث)، وبذلك ميزوا الأحاديث الصحيحة من غيرها".
وقد نشأت علوم الحديث مع نشأة الرواية ونقل الحديث في الإسلام، وبدأ ظهور هذه الأصول بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حين اهتم المسلمون بجمع الحديث النبوي خوفاً من ضياعه، فاجتهدوا اجتهاداً عظيماً في حفظه وضبطه، ونقله وتدوينه، وكان من الطبيعي أن يسبق تدوين الحديث علم أصول الحديث؛ ذلك لأن الحديث هو المادة المقصودة بالجمع والدراسة، وأصول الحديث هي القواعد والمنهاج الذي اتبع في قبول الحديث أو رده، ومعرفة صحيحه من ضعيفه.
وقد اتبع الصحابة والتابعون وتابعوهم قواعد علمية في قبول الأخبار من غير أن ينصوا على كثير من تلك القواعد، ثم جاء أهل العلم من بعدهم فاستنبطوا تلك القواعد من مناهجهم في قبول الأخبار، ومعرفة الذين يُعتد بروايتهم أو لا يعتد بهم، كما استنبطوا شروط الرواية وطرقها، وقواعد الجرح والتعديل، وكل ما يلحق بذلك؛ فقد لازم نشوء علم أصول الحديث نقل الحديث وروايته، وهذا أمر طبيعـي؛ فما دام هنالك نقل للحديث فلا بد من وجود مناهج وطرق لذلك النقل، ثم ما لبثت علوم الحديث أن تكاملت، وأصبحت علماً مستقلاً له شأنه بين العلوم الإسلامية.
ومن خلال ذلك نعلم أن بدء تدوين مبادئ هذا العلم، وكذا تسجيل بعض مسائله كان ببدء تدوين التاريخ للرجال، والتصنيف للحديث في الكتب، وكان قبل ذلك محفوظاً في الصدور متردداً على الألسنة، ومع ذلك فإنه لم يؤلف فيه تأليف خاص جامع في الجملة إلا في القرن الرابع الهجري، وما جاء قبل ذلك كان رسائل مستقلة، ونتفاً وجملاً منثورة، ورسائل في بعض المسائل منه تجيء بها المناسبات، وفي أواخر القرن الثاني بُدئ بتأليف بعض المباحث منه على شكل أبواب مستقلة في موضوعها، يجمع الموضوعَ الواحد منها جزءٌ، أو أجزاءٌ تـكـون كتاباً لطيفاً بمقاييسنا اليوم.
وكانوا يؤلفون أول الأمر لكل فن من فنون علم الحديث كتاباً، ثم لما تقعدت المسائل، ونضجت المباحث، واستقرت الاصطلاحات، جعلوا كل نوع باباً من أبواب المصطلح، كما هو الحال في كتاب الإمام ابن الصلاح: "معرفة أنواع الحديث"، وقد يطول النوع أو يقصر بحسب ما كتبوا فيه، وما دخل تحته من مسائل وفروع وفوائد وتنبيهات، وكان من الأئمة المحدثين من يشير إلى بعض قواعد علـوم الحديث من تصحيح أو تضعيف أو تعليل خلال كلامه على الحديث، كثيراً كان أو قليلاً.
وهـكـذا تعددت التآليف وتنوعت التصانيف، وكثرت الروافد والأصول، واجتهد العلماء في صياغة قواعد هذه العلوم، كما صنعوا في التأصيل لسائر علوم الآلات كالعربيّة وأصول الفقه، واستمرّ عند المحقّقين في هذا العلم التَّحرير والتَّقريب والتَّيسير إلى زماننا، وأكثر العناية فيه كانت في مُصطلحاته، حتى غلب على هذه العلوم تسمية (مصطلح الحديث).
وقد انتقينا هنا بعض المباحث والقواعد الحديثية كأنواع الحديث باعتباراته المتعددة، والوضع في الحديث، والتدليس، ولطائف الإسناد، والتعريف بأحوال الرواة، إلى غير ذلك من المباحث والقواعد، وحاولنا عرضها بأسلوب سهل ميسر، آملين أن يكتب الله بها النفع والفائدة، وبالله التوفيق.